سورة التوبة - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي وَلاَ تَفْتِنّي} ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت، أولا تلقني في الهلكة فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي. وقيل: قال الجد بن قيس المنافق: قد علمت الأنصار إني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ولكني أعينك بمالي فاتركني {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} يعني أن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} الآن لأن أسباب الإحاطة معهم أو هي تحيط بهم يوم القيامة {إِن تُصِبْكَ} في بعض الغزوات {حَسَنَةٌ} ظفر وغنيمة {تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} نكبة وشدة في بعضها نحو ما جرى يوم أحد {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} الذي نحن متسمون به من الحذ والتيقط والعمل بالحزم {مِن قَبْلُ} من قبل ما وقع {وَيَتَوَلَّواْ} عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم {وَّهُمْ فَرِحُونَ} مسرورون {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي قضى من خير أو شر {هُوَ مولانا} أي الذي يتولانا ونتولاه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} تنتظرون بنا {إِلا إِحْدَى الحسنيين} وهما النصرة والشهادة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} إحدى السوءيين إما {أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ} وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود {أَوْ} بعذاب {بِأَيْدِينَا} وهو القتل على الكفر {فَتَرَبَّصُواْ} بنا ما ذكرنا {إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} ما هو عاقبتكم {قُلْ أَنفِقُواْ} في وجوه البر {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} طائعين أو مكرهين نصب على الحال. {كَرْهاً} حمزة وعلي وهو أمر في معنى الخبر ومعناه {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} أنفقتم طوعاً أو كرهاً ونحوه {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] وقوله:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقلية إن تقلت
أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أو أحسنت، وقد جاز عكسه في قولك (رحم الله زيداً)، ومعنى عدم القبول أنه عليه السلام يردها عليهم ولا يقبلها أو لا يثيبها الله. وقوله {طَوْعاً} أي من غير إلزام من الله ورسوله و{كَرْهاً} أي ملزمين، وسمي الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه {إِنَّكُمْ} تعليل لرد إنفاقهم {كُنتُمْ قَوْماً فاسقين} متمردين عاتين.
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم} وبالياء: حمزة وعلي {إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ} أنهم فاعل (منع) وهم و{أَن تُقْبَلَ} مفعولاه أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم {بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى} جمع كسلان {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون} لأنهم لا يريدون بهما وجه الله تعالى، وصفهم بالطوع في قوله {طَوْعاً} وسلبه عنهم ههنا لأن المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من رؤسائهم، وما طوعهم ذلك إلا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختبار.
{فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راضٍ به متعجب من حسنه، والمعنى فلا تستحسن ما أوتوا من زينة الدنيا فإن الله إنما أعطاهم ما أعطاهم ليعذبهم بالمصائب فيها، أو بالإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له، أو بنهب أموالهم وسبي أولادهم، أو بجمعها وحفظها وحبها والبخل بها والخوف عليها وكل هذا عذاب {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} وتخرج أرواحهم، وأصل الزهوق الخروج بصعوبة، ودلت الآية على بطلان القول بالأصلح لأنه أخبر أن إعطاء الأموال والأولاد لهم للتعذيب والأماتة على الكفر وعلى إرادة الله تعالى المعاصي، لأن إرادة العذاب بإرادة ما يعذب عليه، وكذا إرادة الإماتة على الكفر {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} لمن جملة المسلمين {وَمَا هُم مّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخافون القتل وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} مكاناً يلجئون إليه متحصنين من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة {أَوْ مغارات} أو غيراناً {أَوْ مُدَّخَلاً} أو نفقاً يندسون فيه وهو مفتعل من الدخول {لَّوَلَّوَاْ إِلَيْهِ} لأقبلوا نحوه {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء من الفرس الجموح {وَمِنْهُمُ} ومن المنافقين {مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} {إذا} للمفاجأة أي وإن لم يعطوا منها فاجئوا السخط، وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين وما فيه صلاح أهله، لأنه عليه السلام استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله راغبون} جواب {لو} محذوف تقديره: ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم، والمعنى ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم وقالوا: كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون.
ثم بين مواضعها التي توضع فيها فقال:
{إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء والمساكين} قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة أي هي مختصة بهم لا تتجاوز إلى غيرهم كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم كقولك (إنما الخلافة لقريش) تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم، فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها، وأن تصرف إلى بعضها كما هو مذهبنا، وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين أنهم قالوا: في أي صنف منها وضعتها أجزأك. وعند الشافعي رحمه الله: لا بد من صرفها إلى الأصناف وهو المروي عن عكرمة. ثم الفقير الذي لا يسأل لأن عنده ما يكفيه للحال والمسكين الذي يسأل لأنه لا يجد شيئاً فهو أضعف حالاً منه، وعند الشافعي رحمه الله على العكس {والعاملين عَلَيْهَا} هم السعادة الذين يقبضونها {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} على الإسلام أشراف من العرب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم على أن يسلموا وقوم منهم أسلموا فيعطيهم تقريراً لهم على الإسلام {وَفِي الرقاب} هم المكاتبون يعانون منها {والغارمين} الذين ركبتهم الديون {وَفِي سَبِيلِ الله} فقراء الغزاة أو الحجيج المنقطع بهم {وابن السبيل} المسافر المنقطع عن ماله، وعدل عن اللام إلى {في} في الأربعة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأن {في} للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها. وتكرير {في} في قوله {وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل} فيه فضل وترجيح لهذين على الرقاب والغارمين. وإنما وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ليدل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات حاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم، حسماً لأطماعهم وإشعاراً بأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها، وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها! وسهم المؤلفة قلوبهم سقط بإجماع الصحابة في صدر خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم، والحكم متى ثبت معقولاً لمعنى خاص يرتفع وينتهي بذهاب ذلك المعنى {فَرِيضَةً مّنَ الله} في معنى المصدر المؤكد لأن قوله {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ} معناه فرض الله الصدقات لهم {والله عَلِيمٌ} بالمصلحة {حَكِيمٌ} في القسمة.
{وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة، وإيذاؤهم له هو قولهم فيه {هُوَ أُذُنٌ} قصدوا به المذمة وأنه من أهل سلامة القلوب والعزة، ففسره الله تعالى بما هو مدح له وثناء عليه فقال: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} كقولك (رجل صدق) تريد الجودة والصلاح كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن، ويجوز أن يريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذن في غير ذلك.
ثم فسر كونه أذن خير بأنه {يُؤْمِنُ بالله} أي يصدق بالله لما قام عنده من الأدلة {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، وعدي فعل الإيمان بالباء إلى الله، لأنه قصد به التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به، وإلى المؤمنين باللام لأنه قصد السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقه لكونهم صادقين عنده، ألا ترى إلى قوله {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] كيف ينبو عن الباء {وَرَحْمَةٌ} بالعطف على {أذن} {وَرَحْمَةٌ}: حمزة عطف على {خَيْرٍ} أي هو أذن خير وأذن رحمة لا يسمع غيرها ولا يقبله {لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ} أي وهو رحمة الذين آمنوا منكم أي أظهروا الإيمان أيها المنافقون حيث يقبل إيمانكم الظاهر ولا يكشف أسراركم ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، أو هو رحمة للمؤمنين حيث استنقذهم من الكفر إلى الإيمان ويشفع لهم في الآخرة بإيمانهم في الدنيا {والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدارين.


{يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} الخطاب للمسلمين، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم فقيل لهم {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم مؤمنين كما تزعمون، فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق. وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسول الله فكانا في حكم شيء واحد كقولك (إحسان زيد وإجماله نعشني) أو والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك.
{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ} أن الأمر والشأن {مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} يجاوز الحد بالخلاف وهي مفاعلة من الحد كالمشاقة من الشق {فَأَنَّ لَهُ} على حذف الخبر أي فحق أن له {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلك الخزي العظيم * يَحْذَرُ المنافقون} خبر بمعنى الأمر أي ليحذر المنافقون {أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} {تُنَزَّلَ} بالتخفيف: مكي وبصري {تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} من الكفر والنفاق، والضمائر للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم دليله {قُلِ استهزءوا}، أو الأولان للمؤمنين، والثالث للمنافقين، وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه {قُلِ استهزءوا} أمر تهديد {إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} مظهر ما كنتم تحذرونه أي تحذرون إظهاره من نفاقكم، وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم وفي استهزائهم بالإسلام وأهله حتى قال بعضهم: وددت أني قدّمت فجلدت مائة وأنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} بينا رسول الله يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات هيهات. فأطلع الله نبيه على ذلك فقال: احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا. فقالوا: يا نبي الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر، أي ولئن سألتهم وقلت لهم لم قلتم ذلك؟ لقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب {قُلْ} يا محمد {قُلْ أبالله وءاياته وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه، فجعلوا كأنهم معترفون، باستهزائهم وبأنه موجود فيهم حتى وبخوا بإخطائهم موقع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير، وذلك إنما يستقيم بعد ثبوت الاستهزاء {لاَ تَعْتَذِرُواْ} لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم {قَدْ كَفَرْتُمْ} قد أظهرتم كفركم باستهزائكم {بَعْدَ إيمانكم} بعد إظهاركم الإيمان {إن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ} بتوبتهم وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق {نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} مصرين على النفاق غير تائبين منه {أَن يُعفَ تُعَذّبَ طَائِفَةٌ} غير عاصم.
{المنافقون والمنافقات} الرجال المنافقون كانوا ثلثمائة والنساء المنافقات مائة وسبعين {بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} أي كأنهم نفس واحدة، وفيه نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} [التوبة: 56] وتقرير لقوله {وَمَا هُم مّنكُمْ} [التوبة: 56] ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين فقال: {يَأْمُرُونَ بالمنكر} بالكفر والعصيان {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف} عن الطاعة والإيمان {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} شحاً بالمبارّ والصدقات والإنفاق في سبيل الله {نَسُواْ الله} تركوا أمره أو أغفلوا ذكره {فَنَسِيَهُمْ} فتركهم من رحمته وفضله {إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون} هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف به المنافقون حين بالغ في ذمهم {وَعَدَ الله المنافقين والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا} مقدرين الخلود فيها {هِىَ} أي النار {حَسْبُهُمْ} فيه دلالة على عظم عذابها وأنه بحيث لا يزاد عليه {وَلَعَنَهُمُ الله} وأهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم معهم في العاجل لا ينفكون عنه وهو ما يقاسونه من تعب النفاق، والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم. الكاف في {كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم} محلها رفع أي أنتم مثل الذين من قبلكم، أو نصب على فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم أي تلذذوا بملاذ الدنيا. والخلاق النصيب مشتق من الخلق وهو التقدير أي ما خلق للإنسان بمعنى قدر من خير {وَخُضْتُمْ} في الباطل {كالذي خَاضُواْ} كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوا. والخوض الدخول في الباطل واللهو، وإنما قدم {فاستمتعوا بخلاقهم} وقوله: {كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} مغن عنه ليذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة} في مقابلة قوله {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} [العنكبوت: 27] {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون}
ثم ذكر نبأ من قبلهم فقال:
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ} هو بدل من {الذين} {وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مَدْيَنَ} وأهل مدين وهم قوم شعيب {والمؤتفكات} مدائن قوم لوط، وائتفاكهن انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} فما صح منه أن يظلمهم بإهلاكهم لأنه حكيم فلا يعاقبهم بغير جرم {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر وتكذيب الرسل {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} في التناصر والتراحم {يَأْمُرُونَ بالمعروف} بالطاعة والإيمان {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} عن الشرك والعصيان {وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله} السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في (سأنتقم منك يوماً) {إِنَّ الله عزيزٌ} غالب على كل شيء قادر عليه فهو يقدر على الثواب والعقاب {حَكِيمٌ} واضع كلا موضعه {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً} يطيب فيها العيش وعن الحسن رحمه الله: قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد {فِى جنات عَدْنٍ} هو علم بدليل قوله: {جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن} [مريم: 61] وقد عرفت أن (الذي) و(التي) وضعا لوصف المعارف بالجمل وهي مدينة في الجنة {ورضوان مّنَ الله} وشيء من رضوان الله {أَكْبَرُ} من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة {ذلك} إشارة إلى ما وعد أو إلى الرضوان {هُوَ الفوز العظيم} وحده دون ما يعده الناس فوزاً.


{ياأيها النبى جاهد الكفار} بالسيف {والمنافقين} بالحجة {واغلظ عَلَيْهِمْ} في الجهادين جميعاً ولا تحابهم، وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} جهنم. أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه. منهم الجلاس بن سويد فقال: والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لأخواننا الذين خلّفناهم وهم سادتنا فنحن شر من الحمير. فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس: أجل والله إن محمداً صادق وأنت شر من الحمار. وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضر فحلف بالله ما قال، فرفع عامر يده فقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزل {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} يعني إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير، أو هي استهزاؤهم فقال الجلاس: يا رسول الله والله لقد قلته وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام، وفيه دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد لأنه قال: {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} من قتل محمد عليه السلام أو قتل عامر لرده على الجلاس. وقيل: أرادوا أن يتوجوا ابن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا نَقَمُواْ} وما أنكروا وما عابوا {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فآثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى {فَإِن يَتُوبُواْ} عن النفاق {يَكُ} التوب {خَيْراً لَّهُمْ} وهي الآية التي تاب عندها الجلاس {وَإِن يَتَوَلَّوْا} يصروا على النفاق {يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والأخرة} بالقتل والنار {وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} ينجيهم من العذاب. {وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله} روي أن ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله ادع الله يرزقني مالاً فقال عليه السلام: «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه. فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً وانقطع عن الجمعة والجماعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ فقال:
«يا ويح ثعلبة» فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال: ما هذه إلا جزية وقال: ارجعا حتى أرى رأيي، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه: «يا ويح ثعلبة» مرتين، فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال: إن الله منعني أن أقبل منك فجعل التراب على رأسه، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، وجاء بها إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه {لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ} أي المال {لَنَصَّدَّقَنَّ} لنخرجن الصدقة والأصل (لنتصدقن) ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} بإخراج الصدقة {فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ} أعطاهم الله المال ونالوا مناهم {بَخِلُواْ بِهِ} منعوا حق الله ولم يفوا بالعهد {وَتَوَلَّواْ} عن طاعة الله {وَّهُم مُّعْرِضُونَ} مصرون على الإعراض.
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ} فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم لأنه كان سبباً فيه {إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي جزاء فعلهم وهو يوم القيامة {بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين، ومنه جعل خلف الوعد ثلث النفاق. {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} يعني المنافقين {أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} ما أسروه من النفاق بالعزم على إخلاف ما وعدوه {ونجواهم} وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها {وَأَنَّ الله علام الغيوب} فلا يخفى عليه شيء {الذين} محله النصب أو الرفع على الذم، أو الجر على البدل من الضمير في {سِرَّهُمْ ونجواهم} {يَلْمِزُونَ المطوعين} يعيبون المطوعين المتبرعين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصدقات} متعلق ب {يَلْمِزُونَ}. رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت أربعة لعيالي فقال عليه السلام: «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت» فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً، وتصدق عاصم بمائة وسق من تمر {والذين} عطف على {المطوعين} {لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} طاقتهم. وعن نافع {جَهْدَهُمْ} وهما واحد. وقيل: الجهد الطاقة والجهد المشقة وجاء أبو عقيل بصاعٍ من تمر فقال: بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعاً لعيالي، وجئت بصاع فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، وأما صاع أبي عقيل فالله غني عنه {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} فيهزءون {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} جازاهم على سخريتهم وهو خبر غير دعاء {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم.
ولما سأل عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبيه في مرضه نزل {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وقد مر أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير وليس على التحديد والغاية، إذ لو استغفر لهم مدة حياته لن يغفر لهم لأنهم كفار والله لا يغفر لمن كفر به، والمعنى وإن بالغت في الاستغفار فلن يغفر الله لهم. وقد وردت الأخبار بذكر السبعين وكلها تدل على الكثرة لا على التحديد والغاية، ووجه تخصيص السبعين من بين سائر الأعداد أن العدد قليل وكثير، فالقليل ما دون الثلاث، والكثير الثلاث فما فوقها، وأدنى الكثير الثلاث وليس لأقصاه غاية. والعدد أيضاً نوعان: شفع ووتر، وأول الإشفاع اثنان، وأول الأوتار ثلاثة، والواحد ليس بعدد، والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين لأن فيها أوتاراً ثلاثة وأشفاعاً ثلاثة، والعشرة كمال الحساب لأن ما جاوز العشرة فهو إضافة الآحاد إلى العشرة كقولك (اثنا عشر وثلاثة عشرة) إلى (عشرين)، والعشرون تكرير العشرة مرتين، والثلاثون تكريرها ثلاث مرات وكذلك إلى مائة، فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه، وكمال الحساب والكثرة منه، فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لأقصاه فجاز أن يكون تخصيص السبعين لهذا المعنى والله أعلم {ذلك} إشارة إلى اليأس من المغفرة {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ولا غفران لكافرين {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن الإيمان ما داموا مختارين للكفر والطغيان {فَرِحَ المخلفون} المنافقون الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم وخلّفهم بالمدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان {بِمَقْعَدِهِمْ} بقعودهم عن الغزو {خلاف رَسُولِ الله} مخالفة له وهو مفعول له، أو حال أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له {وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله} أي لم يفعلوا ما فعله المؤمنون من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الحر} قال بعضهم لبعض أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} استجهال لهم لأن من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل.

1 | 2 | 3 | 4 | 5